المتواجدون الآن

زيدٌ وعمرو في كتب النحو وسر الضرب بينهما

قال الدكتور محمد بن عبد الرحمن السبيهين: بعض الناس يسألون: لماذا يلحُّ النحويون على التمثيل بزيد وعمرو؟ والجواب: أن علم النحو أو كتب النحو علم تطبيق وتمثيل، ولا يكاد موضوع أو مسألة، بل لا تكاد تخلو صفحة من كتب النحو من أمثلة قد تصل إلى عشرة أو أكثر أحياناً. ولذلك هم محتاجون إلى الإختصار ومحتاجون إلى الأسماء المختصرة، وأكثر الأسماء اختصاراً ما تكون من ثلاثة أحرف، وأفضل أو أسهل الكلمات ما كان السكون فيها.
 
هذه الأحرف الثلاثة لا يمكن تسكين الحرف الأول فيها، لأن العربي لا يبدأ بساكن ولا يبدأ بالحرف الأخير لأنه محل الإعراب، فلم يبقَ إلا تسكين الأوسط، ولذلك الإسم الثلاثي المكون من ثشثة أحرف ساكن الوسط هو أخف الأسماء، فصار النحويون يكثرون التمثيل بزيد وعمرو وبكر للرجال، وبهند ودعد للنساء.

وفي هذا الموضوع كتب مصطفى لطفي المنفلوطي مقالاً بعنوان: « زيد وعمرو » ، جاء فيه:
أراد داود باشا – أحد وزراء تركيا في العهد القديم – أن يتعلم اللغة العربية، فأحضر أحد علمائه، وأخذ يتلقى عنه علومه عهدًا طويلاً فكانت نتيجة عمله ما ستراه. سأل داودُ شيخـَه يومًا: ما الذي جناه عمرو من الذنوب حتى استحق أن يضربه زيد كل يوم ويبرح به هذا التبريح المؤلم؟ وهل بلغ عمرو من الذل والعجز منزلة من يضعف عن الإنتقام لنفسه, وضرب ضاربه ضربةً تقضي عليه القضاء الأخير؟، سأل الشيخَ هذا السؤال وهو يحترق غيظـًا وحنقـًا, ويضرب الأرض بقدميه. فأجابه الشيخ: ليس هناك ضارب ولا مضروب يا مولاي, وإنما هي أمثلة يأتي بها النحاة لتقريب القواعد من أذهان المتعلمين.

فلم يعجبه هذا الجواب, وأكبر أن يعجز مثل هذا الشيخ عن معرفة الحقيقة في هذه القضية، فغضب عليه وأمر بسجنه، ثم أرسل إلى نحوي آخر فسأله كما سأل الأول، فأجابه بمثل جوابه، فسجنه كذلك، ثم ما زال يأتي بهم واحدًا بعد واحد، حتى امتلأت السجون وأقفلت المدارس. وأصبحت هذه القضية المشؤومة الشغلَ الشاغل عن جميع قضايا الدولة ومصالحها. ثم بدا له أن يستوفد علماء بغداد، فأمر بإحضارهم، فحضروا وقد علموا قبل الوصول إليه ماذا يراد بهم، وكان رئيس هؤلاء العلماء بمكانة من الفضل والبصر بموارد الأمور ومصادرها، فلما اجتمعوا في حضرة الوزير أعاد عليهم ذلك السؤال عينه. فأجابه رئيس العلماء: إن الجناية التي جناها عمرو يا مولاي يستحق أن ينال لأجلها من العقوبة أكثر مما نال، فانبسطت نفسه قليلاً وبرقت أسارير وجهه، وأقبل على مُحدّثه يسأله: ما جنايته؟
فقال له: إنه هجم على اسم مولانا الوزير واغتصب منه الواو، فسلط النحويون عليه زيدًا يضربه كل يوم جزاء وقاحته وفضوله – يشير إلى زيادة « واو » عمرو وإسقاط الواو الثانية من داود. فأعجب الوزير بهذا الجواب كل الإعجاب، وقال لرئيس العلماء: أنت أعلم من أقلته الغبراء، وأظلته الخضراء، فاقترح عليّ ما شئت ، فلم يقترح عليه سوى إطلاق سبيل العلماء المسجونين، فأمر بإطلاقهم، وأنعم عليهم وعلى علماء بغداد بالجوائز والصلات.
أحسن داود باشا في الأولى وأساء في الأخرى، ولو كنت مكانه ما أطلقت سبيل هؤلاء النحاة من سجنهم حتى آخذ عليهم عهدًا وثيقـًا أن يتركوا هذه الأمثلة البالية إلى أمثلة جديدة مستطرفة تؤنس نفوس المتعلمين وتذهب بوحشتهم، وتحول بينهم وبين النفور من منظر هذه الحوادث الدموية.

وقيل بأن النحويون يستخدمون هذه الأسماء « زيد وعمرو وبشر وسعيد وغيرها » لأسباب ليس عبثاً وإنما لأسباب وهي:-
1- قصر الكلمات بعدد حروفها، وهذا يوفر الوقت والجهد والنسخ في الكتابة قديما فكم تتصور عدد النسخ إذا كان الإسم « عبدالحكيم » في باب الأحرف الخمسة التي تعمل فيما بعدها كعمل الفعل فيما بعده أي  « الحروف الناسخة » ؟!. والنحويون لم يتابعوا سيبويه في كل شيء ؛ لأن سيبويه - رحمه الله رحمة واسعة - كان يمثل باسم « عبدالله » كثيراً، ومع ذلك لم يشتهر شهرة زيد وعمرو عند النحاة.
 
2- زيد وعمرو وسعيد وبشر تحتمل علامات الإعراب جميعا الرفع والنصب والجر، ويكون فيها الإعراب واضحا بخلاف « إبراهيم » مثلا ؛ لأنه ممنوع من الصرف، ولن يتضح لطالب العلم الشادي أحياناً، فمثلا في باب الجر: مررت بإبراهيمَ.  كما تلاحظون « إبراهيم » مجرور وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة لأنه ممنوع من الصرف. وفي هذا لبس على الشادي في علم النحو، فيظن أن إبراهيم منصوبٌ !
 
وما ذكرته في إبراهيم لأنه ممنوع من الصرف ينسحب - أيضاً - على « مصطفى » لأنه مقصور، فلا تتضح فيه العلامة أبداً، وينسحب على المنقوص في حالتيْ الرفع والجر، وقس على ذلك كثيراً...!! لذلك ابتعد النحويون عن الأسماء التي تلبس على الطلاب، واختاروا منها قليل اللفظ قصيره توفيرا لجهدهم ووقتهم.


Google Ads

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Powered by Blogger